نادرة عبدالقدوس
في صباح يوم قائظ من أيام الصيف , والشمس ترسل اشعتها الذهبية ,
حزمنا أمتعتنا وتهيأنا الرحيل إلى ( يافع ) كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحاً
عندما بدأت حافلة الركاب (التيوتا)_ سعة الستة عشر راكباً _ تشق طريقها من مدينة
الشيخ عثمان في محافظة عدن _ باتجاه محافظة (لحج) شمالاً حيث تقع فيها مديرية (
يافع ) وهي واحدة من مديريات لحج الخمس والشهيرة بجبالها الشامخة وبمدرجاتها
الزراعية وبوديانها العميقة وبطقسها المعتدل صيفاً والبارد شتاءاً , حيث تهطل
الامطار معظم فصول السنة وتزداد غزارة في فصل الشتاء فتكون السيول التي تأتي
بالخير لأبناء يافع وللمناطق المجاورة لها في لحج , وأحياناً تسبب هذه السيول
الكوارث التي تسقط على رؤوس الأهالي فتحيل حياتهم جحيماً لا يطاق .
البيوت في اعلى قمم الجبال
تبعد مديرية يافع عن محافظة عدن بحوالي 120 كم , ويبلغ
عدد سكانها حوالي 250 ألف نسمة موزعين على مراكز لبعوس ( العاصمة ) والحد ووادي
يهر , مضت ساعة ونصف الساعة قبل أن نصل إلى منطقة ( حبيل جبر ) في مركز ( الحبيلين
) الواقعة في مديرية ردفان , ثاني مديريات لحج , لتناول بعض الاطعمة والمشروبات
وأخذ قسط من الراحة لم نتأخر كثيراً في البقاء في الحبيلين وواصلنا الرحلة على طول
طريق غير ملتوية باتجاه يافع .. كانت الطريق سهلة ومنبسطة أمامنا .. وبعد مرور
ساعة شعرنا بأن السيارة تنحدر بنا يميناً حيناً ويساراً حيناً آخر في التواءات
وانحناءات متوالية , ثم ترتفع بنا تارة وتنخفض تارة أخرى , لم أكن حينها قد عرفت
اننا مع بدء أول انحناءة نصعد جبلاً شاهقاً يبلغ ارتفاعه حوالي (2000) متر فوق
البحر ويدعى (( نقيل خَلاَء )) وفجاءة بدأت السيارة تخفف من
سرعتها فتيقنا من انتهائنا من السير على طريق مرصوفة لنبدأ مشوارنا الصعب فوق طريق
وعرة وخطرة تسمى طريق (( العسكرية – لبعُوس )) التي وقف
الاهالي هناك ضد مشروع شقها ورصفها لتصل الى
الهضبة (( لبعوس )) بحجة ان مزارعهم وبيوتهم تقع عليها ويقول
الاهالي انهم سيخسرون ستة الاف شجرة من اشجار البن وأربعين بناية بين منازل وحظيرة
أغنام قالت رفيقتي اليافعية الأصل , والتي نزح اهلها إلى عدن منذ سنوات مضت
: (( هذا هو ( وادي يهر ) والطريق الوحيدة المؤدية الى
لبعوس )) , أخبرتني بذلك بعد ان اجتزنا بصعوبة بالغة طريق ((العسكرية ))
لندخل الوادي الأشد صعوبة ووعورة فقد كان مليئاً بالأحجار الكبيرة الشبيهة بالصخور
وبالحفر العميقة , وكانت السيارة ـ وهي تسير ببطء شديد ـ توحي لنا بين الفينة
والاخرى وكأنها سترتطم بالصخور وستنقلب بنا , وما أبشع الهلع الذي اصابنا حينذاك .
هنا تذكرت ما قاله لي المهندس عبدالله نعمان مدير دائرة التصميم والاشراف في
الهيئة العامة للطرقات والجسور في وزارة الانشاءات فرع عدن بأن (( يافع
من المناطق الأشد وعورة في اليمن . ومشروع (( لبعوس )) من
أصعب المشاريع التي نفذت , ولكنه مشروع لم يكتمل مع الأسف )) . وأضاف
قائلاً :(( على الرغم من أن شق هذه الطريق سيكون له جدوى اقتصادية كبيرة في
حياة أبناء المنطقة , الا ان الاهالي وأعيان يافع تراجعوا عن موافقتهم على المشروع
وعلى ازالة معوقات تنفيذه ,بقلع الأشجار وازالة البيوت الواقعة على الطريق المراد شقها
والتي لا توجد طريق اخرى غيرها لشقها , وخلقوا العراقيل والحجج الواهية , ومنذ
البدء بتنفيذ المشروع عام 1989م دخلوا في نزاعات مسلحة مع عمال البناء مما أدى الى
توقف العمل نهائياً عام 1990 ورحيل الخبراء الصينيين , وتركت المعدات ومواد البناء
في العراء , مما تسبب في أكل الصدأ لمعظمها , وما أن وضعت الحرب الأهلية اليمنية
أوزارها عام 1994م حتى نهبت المعدات ومواد البناء المتبقية وهكذا اصبح المشروع
مجرد اطلال ولم يبق سوى هياكل أليات ضخمة يصعب نقلها من محلها )) .
توقفت السيارة أخيراً امام جبل شاهق الارتفاع مرصع حتى قمته بالبيوت المتفرقة
والمتناثرة هنا وهناك . وهي مكونة من عدة أدوار ومبنية من الحجر , وبعضها تم
بناؤها منذ حقبات مضت ولازالت شاهدة على تقلبات الزمن , والملفت للنظر ان معظم
منازل وادي (( يهر)) مصممة تصميماً واحداً سواء القديمة منها أو حديثة البناء , فطابع البناء
لم يتغير اما عن طلاء المنازل فهو ايضاً يعكس الوانا موحدة وهي السماوي والأخضر
والأبيض .. وأغلب الظن ان هذا التوحيد في اختيار الألوان مرده إلى علاقة الانسان
اليافعي بالطبيعة المحيطة به من كل جانب فهنا السماء الزرقاء المعطاءة والاشجار
الخضراء الباسقة التي تعطي البن والاثل ( Tamarisk ) , والنبق والذرة ,
والتين هنا في وادي (( يهر )) حيث درجة الحرارة لا تتعدى
الثلاثين في النهار , وتصل إلى خمس وعشرين درجة فوق الصفر أو أقل منها في مساء
تتمتع بطقس جميل ومنعش يمنحك نشاطاً وينفحك بالطاقة .
المرأة وواقعها
المرأة في يافع كغيرها من
النساء الريفيات تحمل على عاتقها أعباء الحياة فهي الفلاحة والحطابة
وربة البيت الممتازة . إذ تصحو منذ الصباح الباكر لتجمع الحطب , الذي يستعمل
وقوداً للنار وهو الأكثر استخداماً هناك من طباخات البوتوجاز , وتجمع اعلاف الاغنام من مرتفعات الجبال في
كيس جلدي تربطه على ظهرها يسمى بالـ (( جِلْعَاب )) كما ان
االمرأة هناك المسؤولة عن جلب الماء من الآبار وغالباً ما تكون بعيدة عن المنزل
بمسافات طويلة , ان اهمية دور المرأة في يافع بعد غياب معظم الرجال بسبب الهجرة يعتبر
عاملاً مهماً في اعاقتها عن اخذ قسطها من التعليم , إذ ما ان تصل الفتاة إلى سن
الثالثة عشرة حتى يمنعها أهلها من مواصلة الدراسة بالذات إذا جاءها العريس وخطبها
منهم , كما حدث ذلك لطفلة لم تتعد بعد الخمسة عشر ربيعاً عندما زوجها أهلها لشاب
أكبر منها بسنوات عديدة , وكانت هذه الطفلة تحلم بمواصلة دراستها وتحقيق رغبتها في
العمل كمدرسة , وقد قالت لي بأنها خطبت لعريسها منذ كانت في الثانية عشر من عمرها
. كما أن الأفكار العقيمة ما زالت تخيم على عقول الآباء هناك والتي تعيب على
الفتاة البقاء بدون زواج بعد سن السادسة عشرة من عمرها.
نقش الحنة على الكفين
وفي الفترة الأخيرة ـ خاصة بعد قيام الوحدة اليمنية
واستبدال (( قانون الأسرة)) الذي كان معمولاً به في المحافظات
الجنوبية والشرقية بقانون (( الاحوال الشخصية )) على الرغم من
عدم المصادقة عليه حتى اليوم من قبل مجلس النواب , والذي أعطى للرجل الحق في الزواج
من أربع بعكس القانون السابق ـ الأسرة ـ الذي منع الرجل من الزواج بثانية إلا
لأسباب وضحتها بنوده ـ أكثر الرجال من تعدد الزوجات غير عابئين بالآثار السلبية
التي ستترتب على ذلك .. والغريب في الأمر ان النساء هناك غير راضيات عما يحدث لهن
لكنهن يقلن ما باليد حيلة .
ومن المفارقات الأخرى
ايضاً ان هناك عدداً من الفتيات اليافعيات تحدين الواقع المؤلم وخرجن للبحث عن
تحقيق طموحاتهن بخوض مجال العمل وان كان بسيطاً . فقد التقيت بعدد من المدرسات
والممرضات والقابلات خاصة في مدينة لبعوس العاصمة . وهذا التحدي بحد ذاته يعتبر
بداية لانطلاقة المرأة اليافعية نحو تغيير واقعها .
زواج أهل
وادي يهر
يحضر العريس مع عدد
كبير من عشيرته وأصدقائه إلى بيت أهل العروس الذين يستقبلونه بالرقص والغناء
والطلقات النارية وزغاريد النساء , وبعد بضع دقائق يصعد العريس إلى الدار حيث تقبع
العروس تحت الغطاء ويبقى مع أهلها برهة من الزمن , ثم تبدأ مراسيم الزفاف والهبوط
من الجبل , إلى حيث ينتظر الموكب وسط دموع أمها وأخوتها وأقاربها وزغاريد النساء
واطلاق الكلمات المغناة الخاصة بهذه اللحظة , إذ تقول الأغنية على لسان أم العروس
وتغنيها صديقات العروس :
ألا باوَدّعش ياسلا قلبي ونور العين ××××× ألا والليلة النور
ألا باوَدّعش والدموع تملأ رموش العيون ××××× ألا والليلة النور
ومن خلال استعراضنا
لبعض الكلمات الغنائية في مناسبة الزواج وددنا الاشارة إلى ان الاغنية اليافعية قد
أستمدت فنها الأصيل ولونها المميز من التراث الزاخر بأدواته البسيطة وهي الصوت ,
الطبل,المزمار وغيرها من الأدوات والآلات البسيطة حتى ظهور آلة القنبوس والعود
أخيراً .
ولا يفوتنا هنا ان نؤكد على ان الأغنية اليافعية ابتعدت عن رياح التحديث
وظلت متخلفة عن مثيلاتها من الأغنيات اليمنية المختلفة كالصنعانية والحضرمية
واللحجية . الخ بسبب الحروب القبلية الدائرة بين بعضها البعض حتى منتصف القرن
العشرين . وكذلك بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن من يشتغل بالفن خارج عن جدية الحياة.
استقبال العريس
الزفة فوق الجبل
عروس يافع مخبأة
اضافة إلى انهم
اعتقدوا بأن كل من يغني ويحترف الغناء ممسوخ الرجولة وهم الذين عرفوا بالشجاعة
والاحترام . وكان الفنان اليافعي الأصيل يحيى عمر أو ((أبو
معجب )) كما يُلقب , أول من تمرد على واقعه ففر من يافع وهو لم يزل
شاباً يافعاً وذلك عام 1118هـ وطاف معظم بلدان العالم متنقلاً ومطوراً للون
الغنائي اليافعي , وقد أفاد كثيراً برحلته وترحاله بين الأقطار الأغنية اليافعية
بأن ساعد على نشرها هنا وهناك بعيداً عن مسقط رأسه . وقد أثر شعره على مستوى سير
الأغنية اليمنية والخليجية حاملة خصائص ومواصفات الوان الأغنية اليافعية وايقاعها
المميز الذي عرضت به منذ نهاية القرن الحادي عشر للهجرة حتى وقتنا الحاضر وقد غنى
له الكثير من الفنانين الخليجيين والسعوديين أمثال الفنان السعودي محمد عبده .
وتخليداً لهذا الفنان الشاعر والملحن المبدع , والذي ذاع صيته في اليمن والجزيرة
والخليج والهند ( حيث عاش ردحاً من الزمن وتزوج فيها ) , أنشئ في منطقة يافع (
لبعوس ) في 20 أغسطس 1991م ( منتدى يحيى عمر الثقافي للشعر والفنون ) .
البن
في يافع
للبن في يافع طقوس
خاصة , وهو شجرة معمرة , يتراوح ارتفاعها من 4 ـ 10 أمتار , أوراقها متقابلة ,
متموجة الحافة , الأزهار بيضاء نجمية الشكل , والثمار لبنية خضراء اللون في بداية
التكوير ثم تتحول إلى البني (( القات )) الذي ازداد الطلب
عليه وممارسة تجارته في السنوات الخمس الأخيرة في اليمن , حيث يدر على أصحابه
ارباحاً طائلة بعكس البن الذي تتطلب زراعته وحصاده فترة زمنية أطول , ويتناول
ابناء يافع القهوة بكثرة ومن العيب ان لا تقدم للضيف , ولا يكتفي الناس هناك بشرب
القهوة في الصباح فقط , بل طوال اليوم , ويستفاد من البن أيضاً اضافة إلى تناوله
كمشروب منبه مع التمر ـ في ايقاف النزف من الجرح إذ يوضع قليل من البن على الجرح
النازف فيساعد ذلك على توقفه .
ويفضل ابناء يافع شرب
القهوة المعمولة من البن وقشره للتقليل من آثاره السلبية .
مجلة الشرق الاوسط
ملحق جريدة الشرق الاوسط
العدد477
16-12 أغسطس 1995م
تم نشرها من قبل في مدونة مكتوب / الياهو بتاريخ 2 ديسمبر 2010 الساعة: 01:02 ص
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق