الأحد، 30 نوفمبر 2014

كتاب في شرق اليمن(يافع)3

كتاب في شرق اليمن(يافع)3

العودة الى عدن

    كنا أردنا السفر إلى خلة بلاد آل المفلحي السفلى ولكن وجود العقبات الكأداء ووعورة المسالك كل ذلك جعلنا نعدل عن الذهاب إلى خلة من الجربة.

    وأصر الشيخ عبدالرحمن عبد الهادي المفلحي على ان يدعونا إلى داره للغداء والعشاء والمبيت ولكن استطعنا بعد محاولات ووساطات ان نعتذر لهذا الشيخ الكريم كما اعتذرنا عن إجابة دعوات أخرى لشخصيات بارزة في بلاد المفلحي . والشيخ عبدالرحمن عبد الهادي من اشد اليافعيين حماسة وغيرة على يافع ومن أنشطهم عملاً للنهوض بها وقد رافقنا هو والسيد صالح عبدالحميد المفلحي الى حدود الجهوري حين غادرنا الجربة.

    وانضم إلينا في الرحلة الأستاذ حمزة عمر المفلحي وهو مدرس بمدارس المملكة العربية السعودية بجده , جاء إلى يافع لزيارة أهله في خلة قد أتى إلى الجربة ليشاركنا في رحلة يافع.

    وهو خبير بشؤون البلاد اليافعية فقد قضى بها ردحاً من الزمن واشتغل بالتدريس في الجربة كما رافق الدباغ في حركته السياسية التي قام بها في جنوب الجزيرة وذاق الأمرين وكان وفياً لأستاذه فعندما وافاه الأجل بذل الأستاذ حمزة مجهوداً كبيراً في المحافظة على زوجة الدباغ وأولاده وأعادهم إلى الحجاز مكرمين . الأستاذ حمزة طلق المحيا مشبوب الترحيب يلقاك كأنه أخ لك من قديم وعلى الرغم من نحافة جسمه فانه نشط سريع الحركة يقفز على الصخور ويجتاز العقاب كالريم.

    لقد اخترقنا طريقاً آخر الى القدمة وكانت ممهدة صالحة لسير السيارات اذا عبدت . وبعد حوالي ساعة ونصف ساعة وصلنا القدمة ونزلنا في دار سيد الموسطة الشيخ احمد بن ابي بكر النقيب وفي صباح الأربعاء 22شوال غادرنا القدمة إلى ذيصراء وقد رافقنا الشيخ حسين بن سالم بن عاطف جابر فاستقبلنا بما عهدنا فيه من الكرم والنبل والشهامة.

هجر لبعوس

    وفي صباح الخميس 23 شوال ذهبنا الى هجر لبعوس واخترقنا طريقاً ممهدة قطعناها في نحو ساعة وكان يرافقنا الشيخ صالح بن سالم بن عاطف جابر والشيخ حسين صالح النقيب وعلي عبدالرب بن عاطف جابر وهو اصغر جندي في العالم فهو يحمل السلاح ويجيد ضرب النار ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.

    استقبلنا جماعة من لبعوس بحفاوة بالغة وأطلقوا عشرات العيارات النارية ترحيباً بقدومنا . نزلنا في دار الشيخ محمد بن محسن الضباعي شيخ لبعوس وقضينا سهرة ممتعة كنا نستمع في خلالها إلى المذياع وبخاصة (( صوت العرب)) الذي يفضله القوم في يافع على غيره من الإذاعات .

الشيخ محمد بن محسن الضباعي شيخ لبعوس
مسجد النور

    اصر الشيخ علي بن محسن الحريبي حين كنا في ذيصراء على ان نزوره بمنزله ولم نجد بداً من اجابة طلبه وتحقيق أمله فقد ذهبنا صباح الجمعة الى مسجد النور ونزلنا في داره وأدينا صلاة الجمعة في مسجد النور الأثريي وقد جادت السماء بمطر غزير سالت له الاودية وبعد صلاة العصر خرجت اجوب مزارع الذرة بصحبة الشيخ علي بن محسن الحريبي وكان السيل يغمر المزارع والشمس وراء السحب فكان منظراً جميلاً رائعاً ذكرني بجبال قاروت في جاوه الغربية.

    وفي المساء عاد الشيخ حسين بن صالح النقيب الى القدمة وعدنا نحن الى ذيصراء ليلاً وقضينا البقية الباقية من الليل بمنزل الشيخ صالح بن سالم عاطف جابر.

الى الزاهر مرة اخرى

    نهضنا من النوم وقد تنفس الفجر ودفقت جيوش النهار زاحفة وراء طبقات الظلام الهادئة الحلكة واصطبغ الافق بدماء الشمس الارجوانية . يالروعة هذا المنظر الطبيعي في هذه البقعة العالية الشامخة من الدنيا.

    وأبت شهامة الشيخ صالح بن سالم بن عاطف جابر الا ان يرافقنا لا الى آخر حدود منطقته ولا الى آخر حدود بلاد يافع ولكن الى داخل حدود اليمن ..الى البيضاء.

    وتابعنا السير نذرع الطريق وقد صمتنا جميعاً من غير داع للصمت ولكن لم يطل هذا الصمت فقد اخذ الاستاذ حمزة والشيخ صالح يتحدثان في شؤون شتى وقد تركنا حميرنا تمشي خلفنا حاملة فرشنا وحقائبنا واخترقنا هضبة صخرية تشقها بعض المنخفضات الشبيهة بالاحواض تغطيها نبات الذرة.

    ومن هذه الهضبة يمكن ان ترى بوضوح قمم جبال ثمر وحبه والعر وعند نهاية حدود لبعوس بدأنا نهبط في منحدر عظيم يقال له عقبة توزلي وهو يؤدي الى واد ضيق عميق غني بنبات الذرة واشجار النبق والبن . ولم نتمكن من رؤية هذا المنحدر الهائل الا عند اقترابنا منه لأن هذه الهضبة الشامخة كانت تحجزه عنا. وتنحدر هذه الاسوار الجبلية انحدراً يبلغ ثلاثة الاف قدم . واخترقنا الوادي سيراً على اقدامنا واندفعنا صاعدين , وكلما تقدمنا أوغل الوادي في الضيق وعلى حافتيه تعلو القمم الشامخة وقد تساقطت منها احجار الى الوادي بفعل عوامل التعرية.

    وبدأنا نصعد عقبة شرعة وهي أقل وعورة من نقيل بني بكر وذبوب وتوزلي , بيد اني شعرت بتعب عظيم في صعودي فيها ولعل ذلك يرجع الى اني لم اذق للنوم طعماً في الليلة الماضية . وكان اسرعنا في السير الشيخ صالح والشيخ قحطان فقد سبقا جميع الرفاق الى قمة العقبة , وكنت انا والاستاذ حمزة متمهلين مترفقين نقف قليلاً لنسعى كثيراً ونحن نمد ابصارنا الى هذه الناحية او تلك لنرى هذا المشهد او ذاك من مشاهد جمال الطبيعة , نمد ابصارنا في هذه الناحية لنرى الاسوار الصخرية الشاهقة وقد علا بعضها نبات مختلف الوانه , تتدلى الاغصان الى اسفل لتلامس مجرى السيل , ونمد ابصارنا الى تلك الناحية لنرى زهوراً جميلة تحمل ابتسامة الشمس ورقة النسيم وهدوء الليل وربما انحنى احدنا فجأة الى الارض لا يحاول ركوعاً ولا سجوداً وانما دعته هذه الزهرات النضرات من زهور العشب الذي ينبت في اعقاب الغيث.
خزان من جبل العر وحوله الرفقاء ويرى في وسطهم الشيخ صالح سالم بن عاطف جابر شيخ مشايخ الضبي

    وفجأة قال لي رفيقي : .. لقد بلغنا نهاية العقبة . فتنفست صعداء وقلت : هنا يجب ان نستريح برهة.

    وهنا تمتد الطريق على سطح الجبال فانطلقنا فيها من غير كلل ومررنا على خزان كبير ملئ بماء المطر وحوله بعض الرعاة يسقون اغنامهم . وبدأنا نخترق طريقاً ممهداً مصعداً في جبل العر , ولكنه صعود متدرج لا مشقة فيه ولا تعب , وعلى سطح الجبل امتدت انظارنا الى آفاق شاسعة . وفي مكان عال وعلى حافة واد عميق يقوم حصن العر الذي بناه جنود الامام منذ ثلاثة قرون حين كانت بلاد يافع عهد ئذ تابعة لليمن وفي هذا الحصن حدثت معركة عنيفة بالسلاح الابيض بين جنود الامام وبين جماعة من يافع كانت المعركة الفاصلة وكان النصر فيها ليافع , فعندما اشتد دفاع حماة الحصن نحتت جماعة من يافع ثقباً كبيراً في الجبل حتى وصلوا الى الحصن من اسفله وقتلوا جنود الامام عن بكرة ابيهم.

حصن العر

 
الثقب الذي نحتته جماعة من يافع في الجبل إلى حصن العر



    وعلى مقربة من جبل حلين توجد منطقة مسطحة وهي اصلح مكان لانشاء مطار بيافع العليا . وظهر جبل حلين وعلى سطحه يقوم قصر السلطان.

    بدأنا نهبط الى وادي الزاهر حيث تنتهي حدود يافع . ومن هناك تصبح الطريق مهاداً مخترقة اراضي زراعية خصبة بها بعض آبار ارتوازية.

الزاهر

    وهكذا اراد الله ان نعود الى الزاهر مرة ثانية . لقد وصلنا الى هذه البلدة المتواضعة قبيل الغروب ونزلنا في دار الشيخ الكريم سالم عبدالقوي الحميقاني فقابلنا بحفاوة لا تقل عن الحفاوة التي قوبلنا بها في المرة الاولى وقضينا سهرة ممتعة ثم نمنا نوماً عميقاً ؛ ولا غرو فقد اضنانا التعب بعد المشقة وطول المسافة فنحن بدأنا رحلتنا من ذيصراء عند مطلع الفجر ووصلنا الزاهر قبيل الغروب.

الى مكيراس

    وفي صباح الاحد 26 شوال غادرنا الزاهر في طريق ممهدة تجتازه السيارات بسهولة , وعند حدود البيضاء ودعنا الشيخ صالح بن سالم بن عاطف جابر وشكرناه على حفاوته البالغة وقد اتخذنا طريقاً يتجه الى الجنوب الشرقي وقد استوت الشمس في كبد السماء , ولكن الحر لم يكن لافحاً ومررنا بضياع جميلة مليئة باشجار الفواكه على اختلاف انواعها اهمها العنب والخوخ . وفي قرية قابل جلسنا تحت شجرة تين ضخمة وقد تدلت من فروعها عناقيد العنب واضطجع كل منا في ظلها الممدود وحولنا اشجار مثمرة يانعة ونباتات غضة زاهرة والسحب القلقة الرخوة تتخذ افتن الاشكال واعجبها وشربنا قهوة هي اقل جودة من القهوة اليافعية ولعل هذا يرجع لا الى عمل القهوة نفسها ولكن الى نوع البن ويظهر ان جو وديان يافع أصلح وانسب لزراعة البن.

    وقابل قرية حقيرة لا شيء يلفت النظر فيها سوى هذه الحديقة . بعد ساعتين غادرنا قابل واندفعت حميرنا تجري لسهولة الطريق , وفي الساعة الخامسة مساء وصلنا مكيراس وهي قرية متواضعة منازلها ذات دور واحد مبنية من الطوب النيء.

    ولا شيء فيها يلفت النظر سوى جوها المعتدل ونسيمها العليل ومائها العذب , وهناك بستان به انواع مختلفة من اشجار الفواكه كالتين والخوخ والعنب والسفرجل والبرقوق يروي بماء ارتوازية والزراعة فيه تسير على احدث الطرق.

    وترسل مكيراس بعض الفواكه والخضر الى عدن بطريق الجو . ويتوسط البستان قصر جميل . وعلى مقربة منه مدرسة مبنية من الحجر . ومنطقة مكيراس داخلة تحت الحكم الانجليزي , ولا تزال جماعة من العواذل يبذلون محاولتهم لاستردادها لذلك فالأمن مضطرب ليلاً , وعندما يأتي النهار يتبدد الخوف وينتشر الناس في اطراف مكيراس حتى حدود البيضاء دون ان يعترض سبيلهم أحد.

ليلة الديك

    ..واخيراً استقر رأينا على شراء تيس صغير او دجاجة للعشاء , فقد هجم الجوع علينا هجوماً عنيفاً , ولعل جو مكيراس الجميل ساعد الى حد كبير على هضم ما في بطوننا من طعام . ولسوء الحظ لم نعثر على تيس صغير ولا كبير ! ولكن أحد السكان احضر لنا ديكاً ضخماً قد تدلى عرفه الاحمر القاني على احدى عينيه فحجبها عن الانظار وانكمش منقاره الطويل المقوس وتساقط كثير من ريش ذيله وجناحيه كأنه خرج من معركة حامية بينه وبين ديوك مكيراس . ولما ذبحه احد الجيران بخنجره الكبير وسلخ جلده الغليظ ظهرت اضلاعه الطويلة العريضة بارزة , فقلت لصاحبي وقد وقف ينظر الى الديك بفم فاغر.. يظهر ان هذا الديك من مواليد القرن الماضي ولعله شاهد اول بيت بني في مكيراس.

    واخيراً .. أحضرت لنا صاحبة البيت العشاء واستعد كل منا للأكل ما عدا السيد حمزة فقد فضل النوم على الطعام لشعوره بتعب . وبدأت المعركة بيننا وبين لحم الديك , وطالت المعركة وانتهت بهزيمتنا فقد كان لحمه اشبه بلحم جمل او جلد جاموس.

    وهكذا استطاع الديك ان يهزمنا جميعاً في مماته كما كان يهزم ديوك مكيراس في حياته.

    وفي الساعة الثامنة من صباح الاثنين 27 شوال غادرنا مطار مكيراس ؛ ومضت الطائرة تشق اجواز السماء في هدوء يلهب في الذهن الخيال وبعد نصف ساعة وصلنا مطار عدن فاستقبلنا الحر والغبار والسموم , انه حر لافح يشوي الوجوه ويزهق النفوس . نزلنا في دار السادة آل العيسائي فقوبلنا بحفاوة بالغة وشوق ملتهب واخذ القوم وعلى رأسهم السادة علي ناجي وحسين عبدالله وعمر قاسم يسألوننا عن جو بلاد يافع وامطارها ومزارعها وأحوالها السياسية والاجتماعية.

    وعلى الرغم من ان بعضهم حديثو عهد بيافع الا انهم مشتاقون لاخبار بلادهم كل الاشتياق ولا غرو فإن للوطن حنيناً لايخبو ويخمد الا بفناء الانسان حتى ولو كان حظ وطنه من الحضارة والرقي قليلاً . واني لأذكر اني حين كنت في هلفرسم احدى مدن هولندا الجميلة , وحين كنت في باريس كنت اشعر بحنين يزداد يوماً بعد يوم الى مصر هذا الوطن الجديد الذي تعلمت في معاهده ونشأت تحت سمائه حتى تجاوزت الاربعين .

إلى ( خلة )

    الطريق وعرة بين عدن وخلة وبخاصة في منطقة الضالع ومسيمير ولابد لنا من سيارة قوية لا تتأثر بالصخور البارزة ولا المسالك الملتوية ولا الوهاد العميقة ولا العقاب الكأداء .

     قال حمزة هذا وانصرف كالبرق الخاطف . 

    وبعد ساعتين اقبل وعلى وجهه دلائل النصر والفرح .

    - ما وراءك ياعصام ؟

    - لقد وجدت سيارة جديدة قوية تخترق الوهاد والتلال والجبال .

   - لقد احسنت .

   - ومتى يبدأ الرحيل ؟


    - الساعة الرابعة من مساء اليوم .

عقب وصولنا إلى خلة

    واقبل مسعود عوض بسيارته الجديدة القوية والسيد مسعود من اكثر الناس خبرة بمسالك جنوب الجزيرة , فقد اشتغل لدى الانجليز سنين عديدة وهو علاوة على ذلك مرح ذو شخصية محبوبة.

لحج

    انطلقت بنا سيارة مسعود كالسهم ولم تتوقف الا فترات قصيرة عند الحواجز الجمركية وما اكثرها بين عدن والضالع . ها نحن في الحوطة عاصمة سلطنة لحج نمر بين بيوت متواضعة مبنية من الطوب النيء ويحتل قصر السلطان العظيم مساحة واسعة . والحوطة تشبه الى حد كبير قرية في الريف المصري فاحراج النخيل تحيط بها من كل الجهات وتكاد لحج تكون اخصب المناطق الجنوبية فتربتها تحتوي على كل عوامل الخصب.

    وتتدرج سفوح الاراضي نحو البحر مكونة رؤوساً من الرواسب النهرية وتنقسم لحج الى قسمين : شرقي ويسمى الوادي الصغير وكان يسمى وادي الزان ويبتدئ من قرية زائدة وينتهي بالقرب من قرية العماد . وغربي ويسمى الوادي الكبير ويبدأ من قرية زائدة ايضاً وينتهي عند مرسى التواهي بعدن وتخترق هذين الواديين وديان عرضية وطولية يقال لها اعيار . وتحتل غابات النخيل واشجار الفواكه ومزارع الذرة مساحة واسعة من اراضي لحج يرويها نهر تبن الذي يستمد ماءه من وادي مسيلة بله ومن روافد اخرى تأتي من داخل حدود اليمن . وفي عصر التبابعة بني سد لحج العظيم وهو سد العرائس لخزن مياه الوديان وتوزيعها على الاراضي الزراعية وليس لهذا السد أثر ولا يعرف مكانه بالضبط ولكن الامير احمد فضل العبدلي ذكر في كتابه (( هدية الزمن في اخبار ملوك لحج وعدن )) أنه كان بالمسيد قرب العند حيث توجد احجار ضخمة مبعثرة في جوف الوادي . وفي لحج تكثر اشجار الموالح والخضروات والموز والعنب والتين وجوز الهند والمانجو والشيكو وهو من اشهر فواكه الهند وألذها طعماً , وتتكدس غلات لحج في اسواق عدن.

    وقبائل لحج خليط من العبادل والجحافل والاعمور والحواشب والعقارب والابقور وذي أصبح.

    وفي لحج من يافع مشايخ آل علي بصهيب والخرمان مشايخ آل قطيب . فالخرمان من آل الكسادي وآل علي من ذي ناخب . وكانت لحج تحت حكم الامير حسين بن عبدالقادر اليافعي ولما احتلها احمد بن الحسن اليمني جاء الشيخ فضل بجيش من يافع وهجم على لحج واحتلها.

    والمصاهرة بين امراء العبادل وامراء يافع معروفة . ولما قتل احمد بن صلاح السلامي انتقلت زوجته وهي من اميرات يافع باولادها الى يافع وقامت في خنفر.

    وجاء في كتاب (( نزهة الجليس وامنية الاريب الانيس )) للشيخ العباس بن علي نور الدين المكي : ان آل سلام العبادل فخذ من يافع من قبيلة كلد وبلدتهم في يافع تسمى بركات غربي جبل فوجه.

    اندفعت بنا سيارة مسعود في طريق ممهدة تظله اشجار كثيفة على الجانبين ويمتد الطريق مسافة طويلة في خط مستقيم.

    وهبت عاصفة رملية عاتية وكادت ذرات الرمل تدفننا واستمر الصراع بيننا وبين العاصفة حتى مغرب الشمس ثم بدأنا نخترق هضبة صخرية تتخللها اخاديد . وفي الساعة التاسعة مساء وصلنا .

قرية ملاح

    وهي قرية متواضعة بنيت منازلها من الطوب النيء وتتكون من دور واحد وقد اتخذنا سطح احد المنازل مكانا للجلوس وللنوم واتفقنا مع الرفقاء على شراء حمل للعشاء وكان عشاء لذيذاً مكوناً من لحم طري ومرق وخبز مخبوز في التنور.

    وكان النسيم عليلاً والهدوء يسود كل شيء في القرية والنجوم ترسل انوارها الضئيلة على الفضاء الواسع فتضفي على الكون جمالاً صامتاً هادئاً فيه شفاء للاعصاب وبلسم للمشاعر والوجدان.
    وكانت صاحبة البيت تأتي الينا من حين الى آخر تقدم لنا القهوة اللذيذة أو تحضر لنا الماء وتارة تنطلق في كلام طويل يمزق جمال هذا السكون الذي يحيط بنا . وكان رفيقنا السيد حمزة عمر المفلحي يصغي اليها باهتمام كثير فقلت لنفسي : ما اوسع صدر حمزة وما اكثر صبره واقوى احتماله لكلام النساء.

    مضى الليل جانب كبير واضطجع كل منا في فراشه . وكنت مستلقيا على ظهري انظر النجوم وفيما انا غارق في لجة عميقة من التفكير إذ بشهب يهوي نحو الارض من أعالي الفضاء بسرعة جنونية تاركاً خلفه خطاً طويلاً ابيضاً فأنتصب أحد الرفقاء مبهوتاً وكان على مقربة مني.

    - ما الذي ازعجك ؟

    - هذا النجم الذي سقط .

    - ليس هذا بنجم وانما هو من الشهب أو الرجوم أو النيازك .
 قلت هذا وتهيأت للنوم ولكنه لم يتركني وشأني فسألني :

     - إيه الشهب وليه تسقط من السماء الى الارض ؟

    سؤالان هامان وعلى جانب من الصعوبة ولولا اني مدرس جغرافيا ومن عشاق هذا العلم لاجبته بالسكوت.

     ولم أر بداً من الاجابة … جلست القرفصاء قائلاً بصوت خافت : (( الشهب قد تسقط وتصل الى الارض على شكل احجار . وعندما نقل الرومان من بلاد اليونان سنة 402 قبل الميلاد حجراً سقط من السماء اعتقد الاغريق انه رسالة من ( سيبيل ) أم الآلهة ( على زعمهم ) وظل العلماء والفلاسفة ينكرون كل الانكار ان هناك احجار تسقط من السماء حتى اوائل القرن التاسع عشر حين امطرت السماء ببلدة L, aigle  في فرنسا عدداً من الرجوم او النيازك سنة 1803م وقام العالم بابوت بدرسها وفحصها واثبت انها من مادة تختلف في التركيب عن المألوف في مادة الارض . ومنذ ذلك الحين اهتم العلماء بدراستها والتعرف على انواعها واثبتوا بالحساب الدقيق ان الفضاء يقذف كل عام الى جو الارض ما لايقل عن سبعة آلاف مليون شهاب لا يصل منها غير تام الاحتراق الى سطح الارض الا حوالي تسعمائة يضيع حوالي ثلاثة ارباعها في اعماق المحيطات واطراف القفار ولا يعثر الانسان كل عام الا على ثلاثة او اربعة ينقلها الى المتاحف ودور العلم حيث يوجد الآن زهاء الف نوع من الشهب اكبرها وزناً شهاب نقله بيري من جزيرة جرينلاند الى متحف لندن ويبلغ وزنه 36 طناً ونصف.

    اما سرعة سقوط الشهب فتتراوح بين 25 و80 ميلا في الثانية الواحدة . وقبل دخول الشهاب في جو الارض على ارتفاع يتراوح بين 70 و80 ميلاً من سطحها تكون حرارته هي حرارة اعماق الفضاء التي تقدر بنحو 459 درجة فرنهيت تحت الصفر فاذا ما اصطدم واحتك بالهواء ارتفعت حرارة سطحه فجأة الى مايقرب من سبعة الاف درجة فهرنيت فيشتعل سطحه ويحترق الهواء المحيط به على صورة هالة ضخمة.

    ومن الشهب ما يتم احتراقه في رحلته فلا يصل الى الارض سليماً .

    قد قسم العلماء ما بين ايديهم من الشهب ثلاثة اقسام :

1- الشهب الحجرية .

2- الشهب الحديدية .

3- الشهب الحجرية والحديدية .

    اما اصل الشهب ومصدرها فقد اختلف العلماء في ذلك : فجماعة من العلماء بجامعة هارفارد قالوا ان قرابة 70% من الشهب يرد الى الارض من خارج المجموعة الشمسية.

    ويقول جامو ان الشهب هي اشلاء كوكب كان قرب المريخ وقد تحطم هذا الكوكب لاصطدام احد اقماره به , ويدلل على رايه هذا بأن الحلقة المحيطة بكوكب زحل والتي يقال انها نتيجة اصطدام أحد اقماره به , هذه الحلقة مكونة من ملايين القطع الصغيرة التي تشبه الرجوم.

    ويقول آخرون ان الشهب من شظايا انقلاب المذنبات "comets " ويؤيدون هذا بأنه على اثر انقلاب احد المذنبات بين سنوات 1852م – 1856م سقطت على المكسيك رجوم من الحديد سنة 1885م.

    وهنا رأيت صاحبي مستنداً بالحائط وقد استسلم للنوم . ولا شك انه لم يفهم شيئاً مما قلته فتركته وشأنه ونمت )).

    بعد فجر الاربعاء 29 شوال غادرنا قرية ملاح وكانت الطريق ممهدة وعندما اوغلنا في وادي سيلة حردبة وجدنا انفسنا بين صفين من الاشجار وبعد نصف ساعة اخذ الوادي يضيق وتقترب السلسلتان الجبليتان من بعضهما واندفعت بنا سيارة مسعود صاعدة في نقيل حردبة ( الخريبة ) وفي نهاية العقبة تمتد هضبة بها مساحات من الاراضي الزراعية تروي بمياه الامطار وتظهر قمم جبال حالمين وحرير وجحاف طاعنات في السماء .

    - ها هي الضالع … لقد اصبحنا على مقربة من خلة.

    والتفت الى مصدر الصوت فإذا بصديقنا السيد حمزة يبتسم . ولا غرو فخلة تبعد عن الضالع 13 ميلاً وبها يقيم اهله واولاده فلا غرابة اذا ابتسم او اضحك او ارقص من الفرح.

    اما انا فليس لي اولاد ولا زوجة , والحمد لله , لا في خلة ولا في غيرها من بلاد العالم فلا يهمني قرب خلة مثل مايهم السيد حمزة . وغاية ما في الامر اني مشتاق لزيارة صديق عزيز كريم في خلة بلاد المفلحي السفلى ذلكم هو الشيخ قاسم بن عبدالرحمن المفلحي ومشتاق ايضاً لمشاهدة المناطق الاثرية التي تضمها تلال شُكُع.

    وصلنا الضالع الساعة السابعة صباحاً ويظهر ان جوها رطب فقد شاهدنا قطرات الندى تتزاحم على اوراق نبات الذرة التي تحتل مساحات واسعة من اراضي الضالع.

    ومدينة الضالع عاصمة بلاد الامير وترتفع حوالي 4000 قدم عن سطح البحر وتبعد عن عدن نحو 96 ميلاً وتتكون المباني من دور الى اربعة ادوار وهي من الحجر ولا تختلف عن المباني في بلاد يافع.

    آل قطيب وقبائلها من القبائل الضاربة على حدود اليمن وكان بعضهم ينهب القوافل بالقوة وقد عانت حكومة عدن الامرين في نشر الامن هناك.

    استأنفنا الرحيل مخترقين سهلاً خصباً واسعاً حتى وصلنا خلة الساعة التاسعة صباحاً فاستقبلنا جماعة من آل المفلحي وعلى رأسهم الشيخ قاسم ابن عبدالرحمن المفلحي حاكم خلة بحفاوة بالغة واطلقوا العيارات النارية احتفاء بقدومنا واتجهنا جميعاً الى المدرسة فاستقبلنا تلاميذها في صفوف منتظمة يتقدمهم ناظر المدرسة السيد سيف بن عبدالقوي المفلحي والمدرسان سعيد ناجي وعبدالرحمن بن هادي وألقوا نشيداً حماسياً ثم صعدنا الى الطابق الثاني وهناك في غرفة اجتمعنا والقى ناظر المدرسة كلمة الترحيب بالنيابة عن الشيخ قاسم عبر فيها تعبيراً صادقاً عميقاً عما تكنه قلوب آل المفلحي من الود فشكرتهم على ذلك ودعوتهم الى العمل ومضاعفة الجهود لنشر التعليم وترقيته الى المستوى اللائق بهم .

مدرسة خلة

    ومما تجب الاشارة اليه ان المدرسة تهتم بالنشاط المدرسي فهناك مساحة من الارض امام المدرسة معدة للقيام بالالعاب الرياضية . ولقد شاهدت بنفسي التلاميذ وهم يؤدون بعض الالعاب الرياضية تحت اشراف مدربهم . فسرني ذلك سروراً كثيراً.
تلامذة مدرسة خلة اثناء القيام بالعابهم الرياضية
    ومما تجدر بالاشارة اليه ايضاً ان هناك على مقربة من المدرسة مستشفى ولكنه خال من المرضى.
    ولقد اختاروا لي مكاناً للنوم يحتل جزءاً من سطح المدرسة وقد احسنوا الاختيار فالمدرسة تقع على ربوة عالية تطل على خلة وامامها محيط واسع من الفضاء يمتد حتى حدود قعطبة.

    وفي الليل فتحت الشباك والباب المقبل للشباك فاوجدت في الغرفة تياراً قوياً وجرى الهواء مع التيار وامتلأت الغرفة بنسيم رقيق ناعم وشعرت في هذا الصيف بنعمة الجو واخذت امارس الشهيق والزفير بعجلة ولهفة وفرح . وكنت اشهق حياة وازفر حياة ولم ادر من فرط شوقي هل اتمتع بالنوم واحرم من الاحساس بالجو الجميل او اتمتع بالجو واحرم نفسي من النوم ؟.

    ولم يكن لي ارادة في الاختيار فقد غلبني النوم على امري وصحوت في الساعة الخامسة صباحاً . ونمت سبع ساعات نوماً عميقاً لا ارق يصدع رأسي ولا عرق يلذع جسدي كما كان الحال في عدن او الحجاز . صحيح اني تلمست كتفي التي تعرضت للهواء وانا نائم فوجدت التيار قد جرفها .. ولكن لا بأس .. فانه خير لي ان اعيش منتعشاً بكتف واحدة من اموت مكتوم الانفاس ولي كتفان.

    ارتديت ملابسي وجلست في شرفة الغرفة اتأمل اشعة الشمس وهي تلمس المروج الخضر والجبال الشماء.

شكع

    تبعد شكع عن خلة حوالي ساعة من الزمن سيراً على الاقدام وللوصول اليها لابد من اجتياز عقبتين على جانب من الصعوبة.

    ومنازل شكع لا تتجاوز عدد اصابع اليدين وتقع على تل صخري عال تحيط بها اخاديد مزروعة ذرة وتلال صخرية شاهقة بها مقابر حميرية اثرية . ومشاهدة الآثار احب الهوايات الى نفسي ولقد ذهبت الى حضرموت في العام الماضي لمشاهدة الآثار في ريبون وغير ريبون وتكبدت لذلك مبلغاً من المال كنت في أشد الحاجة اليه وتحملت متاعب الشمس المحرقة في وادي حضرموت كل ذلك لاشباع هذه الرغبة او هذه الهواية وهي هواية مشاهدة الآثار القديمة والبحث عن معالمها والتنقيب عن مآثرها.

    وإذ كان هذا في حضرموت والمسافة بعيدة والتكاليف كثيرة والحرارة شديدة فكيف لا اذهب الى شكع وغير شكع من بلاد يافع والجو معتدل والشقة قريبة والتكاليف قليلة . وليس هذا فقط فالناس هنا – كلهم من يافع – طوع امري ورهن اشارتي لا خوفاً مني ولا طمعاً في فلست ذا سلطة ولست ذا مال , وانما هو الاخلاص والحب والولاء والوفاء.

    وانطلقنا الى شكع وفي مقدمتنا الشيخ قاسم بن عبدالرحمن المفلحي سيد خلة وهناك شاهدنا قبوراً أثرية محفورة في سفح تل صخري وكان اكتشاف هذه المقابر بطريق الصدفة . فقد كان أحد سكان شكع يحفر في قمة التل فعثر على عمق نحو متر ونصف متر على سيف محطم وخاتم من ذهب وعثر شخص آخر في مكان آخر من سفح التل على لوح من الرخام به كتابات حميرية كما عثرنا في مقبرة حميرية على اوان من البرونز قد علاها الصدأ وأوعية من الخزف والزجاج.
اوعية من البرونز

    وصناعة (( الخزف )) عريقة في القدم , فقد احتاج الانسان منذ أجيال بعيدة الى اوعية يضع فيها غذاءه وشرابه , وكان الفخار هو اسهل مادة متوفرة لديه استطاع ان يتخذ منها هذه الاوعية ولازلنا حتى اليوم نستعمل الفخار في حياتنا اليومية لا فرق بيننا في ذلك وبين اجدادنا الذين عاشوا قبل التاريخ .

     ولشدة اتصال الاواني الفخارية بحياة الانسان عني بدراستها علماء الآثار عناية كبيرة لأنها تعكس صور تطور الحياة.
وعاء من البرونز وسيف من الحديد محطم

    فكلما تدرج الانسان في الرقي تدرجت معه هذه الاواني في سبيل الكمال فافتن في صنعها وزخرفتها وافرغ جهده في تجميلها وتنسيق الوانها حتى خرجت على يديه من سذاجتها الاولى, بل وخرج هو بها عما وجدت له في الاصل فاذا هي اليوم تتخذ مكانها بين التحف الجميلة .

    والفخار هو الطين الذي يشكل باليد او على العجلة او في قوالب خاصة ثم يجفف ويسوي في افران خاصة , وهو اذا غطى بطبقة زجاجية اصبح خزفاً . وهذه الطبقة الزجاجية قد تكون شفافة فتكشف عن لون الفخار او معتمة فلا تكشف عنه .

اناء وطبق من الزجاج الملون
    اما في العصر الاسلامي فقد تغير الحال اذ أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم احاديث تحرم اتخاذ الاواني من الذهب او الفضة , وسواء اصحت هذه الاحاديث ام لم تصح فقد كان لها من غير شك اثر في توجيه العناية الى صناعة الخزف , وفي النهوض بهذه الصناعة الامر الذي كان من نتائجه ابتداع انواع جديدة من الخزف لم تكن معروفة من قبل اهمها الخزف ذي البريق المعدني.
  

مبخرة وغطاؤها من البرونز وابريق من الحزف

لا شك ان منطقة شكع غنية بالآثار وقد طلبت السلطة الانجليزية من حاكم خلة الشيخ قاسم عبدالرحمن المفلحي الا يسمح لاي شخص بالحفر والتنقيب في هذه المنطقة الاثرية.

    بعد ان تناولنا الغداء في منزل الشيخ عبدالقوي الحاكم بالنيابة لمنطقة خلة غادرنا القرية شاكرين للشيخ عبدالقوي احتفاءه بنا وودعنا السيد حمزة وعاد الى خلة وابى الشيخ قاسم الا ان يرافقنا الى الضالع . وفي الساعة الرابعة مساء غادرنا الضالع شاكرين للشيخ احمد قاسم بن عبدالرحمن المفلحي حفاوته البالغة بنا وشعوره الكريم النبيل.

    انطلقت بنا سيارة مسعود كالسهم بين تلك التلال الصخرية والاخاديد العميقة. وفي نقيل (( عقبة )) الخريبة ارتعدت فرائص بعض الركاب ولكن مسعود عوض قاد سيارته بمهارة وبراعة.

الشيخ قاسم بن عبدالرحمن المفلحي
شيخ قبائل المفلحي

انطلقت بنا في وادي حَوْدَبَة بين صفين من اشجار الاثل والنبق والبوص حتى وصلنا الى مسيمير, وأبى مسعود ان يرتاح بعض الوقت في ملاح ذلك لأنه اراد ان يصل الى عدن قبل العاشرة مساء ولقد تحققت رغبته فقد اندفع بسيارته وهو يغني تارة ويقص علينا بعض ذكرياته تارة اخرى , ولعله اراد بذلك ادخال السرور الى نفوس الركاب.

    وكان منظراً جميلاً حين اخذت اشعة الشمس تلمس الفضاء الشاسع وتنفذ فيه وتعلو فوقه ثم تنسحب من الفضاء المحيط بنا رويداً رويداً , وتتجمع كرة حمراء ملتهبة وتغرق الكرة .. وتغرب الشمس في جو السماء.

    ان غروب الشمس وانطفاء جذوتها واحمرار الشفق حولها يرهف شعوري كما لو كان لحناً موسيقياً قوي النغمات.

    انها موسيقى تسمعها عيناي.

    وصلنا عدن الساعة التاسعة مساء سالمين ونزلنا في دار السادة آل العيسائي .
يتبع

تم نشرها من قبل في مدونة مكتوب / الياهو بتاريخ 17 أكتوبر 2010 الساعة: 22:54 م